الثلاثاء، 17 مايو 2011

موط القديمة ... مدينة التاريخ



          نمط العمارة الشعبية فى موط القديمة
                       رحلة الى ( الخرابة ) ..!!
                                      ( عبد الوهاب حنفى )
منذ أيام عدت من رحلة طويلة الى الواحات الداخلة ( مسقط رأسى ) حيث استغرقت الرحلة قرابة الشهر ، ودائما ما تكون رحلاتى الى هناك أشبه بالاستشفاء النفسى ، والغسيل الروحى والجسدى ، علما بأننى – وياسبحان الله – قد رفضت بشدة ،فى مقتبل حياتى العملية ، أن أرتبط بالعيش فى هذه المنطقة ..!! ولكن ، وعلى مايبدو أن هناك عشقا دفينا بداخلى ظل يربطنى بهذه الواحات العبقرية (جغرافيا وتاريخيا ) ما دفعنى دفعا – لااراديا – الى الابحار فى دراسات الواحات من كافة جوانبها , وقد التقى ذلك مع تخصصى العلمى فى علم الثقافة الشعبية والتاريخ الثقافى ( لمناطق الواحات المصرية ، وبدو مطروح وسيناء )، وكأن قدرى من قدر الواحات ، ومهما كان الأمر فاننى أعده نوعا من الحب العميق ... الذى تظل فيه المعشوقة فى حالة انتظار دائم لعاشقها مهما طالت الأزمان ، وتباعدت المسافات .
وقد سبق هذه الرحلة الى الداخلة عدة رحلات دراسية عديدة، الا أن هذه الأخيرة حملت فى تفاصيلها درجة عالية من الثراء العلمى ، ومن قبله الرضا النفسى ، وهوما سوف أضعه على محك التحليل والدراسة فى المستقبل القريب ، ان شاء الله
( ولا يزال العديد من السكان يعيشون فى الكتلة القديمة ..!! )


     ( بعض الفروق بين ثقافة الواحات ، وثقافة البدو )
من ملاحظاتى العلمية والميدانية - خلال السنوات الأربعين الماضية – من واقع الظرف الوظيفى  والعلمى ، أن الثقافة البدوية تحمل ثقة بالذات ، تجد فى حاملها فخرا بها ، وبالتالى التمسك بمفرداتها ، وتطويعها لكل ما هو جديد ومستحدث ..!!
فى المقابل ، فاننا نجد أن ثقافة الواحات ،تتقبل الجديد وكل ماهو وافد على طريقة      ( الشيخ البعيد ، سره باتع ..!! ) وبالتالى فان النظر الى التراث المنقضى – من وجهة نظر الواحية – هو ضرب من التخلف ...!!
ولعل هذه المفارقة ، تعد – فى رأينا – هى الأهم فى سياق توصيف الثقافتين ، ثقافة الواحات من جهة ، والثقافة البدوية من الجهة الأخرى .
وكى أوضح الأمر فى صورة أكثر يسرا ، دعونا نرى ونلحظ أن مجتمعات الواحات ظلت الى عهود قريبة فى حالة انغلاق تام عن المجتمعات الأخرى ، وما نتج عن ذلكمن الاحساس – بل الاعتقاد – بأنه من المؤكد أن كل منيعيش خارج هذه ( الواحة / السجن ) ، لابد وأن يكون هو الأفضل ، وبالتالى فانهم يستقبلون الوافد دائما باعتباره حاملا لشعلة التنوير والتقدم ، لفك أسرهم من داخل ثكنات الهضبة العليا ، وما أن
خرجوا من بيوتهم القديمة ، حتى أطلقوا عليها ( الخرابة ..!!) دونما أدنى درجة من درجات احترام الماضى القريب جدا جدا ..!!
بينما تجد فى المقابل ، أن البدوى يظل حتى الآن متفاخرا ، وممارسا لتراثه بعاداته وتقاليده ومنظومة القيم الحاكمة لحياته الراسخة منذ آلاف السنين ، وفى ذات الوقت فانه يساير العصر – فى جوانبه المادية فقط – مثل السيارة والفيلا ، الى جانب الجمل وبيت العرب ، بل أن الأمر يصل الى حد الاستعلاء على ثقافة الفلاحين ..!!
ولذا ، فقد حكم الظرف الاجتماعى والثقافى  علينا- نحن أهل الواحات من صفوة الواعين والمثقفين – حينما تداعبنا خيالات الماضى الجميل ، فلا نجد الاأن نذهب الى معشوقتنا (الخرابة ) فما أحوج الانسان فى هذا العصر الى أ ن يعود الى طفولته وشبابه ولو لدقائق قليلة ... وقد كان ..
    ( أنور منصور يحكى عن محاولاته البحثية ، فى الأصول السكانية )
أ
أنور محمود منصور ، هو واحد من القلائل ممن يبحثون بمنهج ( النخربةِ ) عن تارخ وأصول عائلات هذه الواحة العبقرية ، بعد أن عركته الحياة فيها ،مع أنه ينتمى الى طبقة التكنوقراط فى الواحات، ثم بعد ذلك الاستغراق التام فى خنادق وقصور وبدرومات الحياة القاهرية فى مرحلة مابعد النكسة ، تلك التى تحدث عنها أديب نوبل نجيب محفوظ ، وأعتقد أنه حينما كتب رواياته ، انما كان يشم رائحة صديقى أنور منصور ..! وسافر أنور الى سلطنة عمان ( السلطنة متفردة الحضارة ) وكأن الله قد أراد أن يكتب لأنور منصور  حياة سوية بلا أمراض عصرية ، وفى مقدمتها أمراض أموال الخليج ، فما كان من القدر الا أن أعاده الينا – والحمد لله – صفر اليدين ، ممتلئ العقل والنفس ..! وتبدى ذلك فى همومه البحثية ، والسعى خلف التاريخ بضوء خافت ، ذلك الضوء الذى كنا نطلق عليه فى الواحات ( السراج ) لذلك فانه يحلو لى أن أطلق على أنور أسم ( سراج السقيفة ) وهو اسم له علاقة     ( بالنخربة ) التى تعنى البحث بشغف عن الشيء  بين الأطلال والركام والخرائب ، وما أكثر ما أفاد أنور من هذا المنهج فى التوصل الى وثائق غاية فى الأهمية حول التصنيف السكانى لهذه الواحة .وفضلا عن كتاباته العديدة فى الصحافة العمانية ، فانه يداوم على الكتابة فى جريدة الوادى الجديد ، مشاركا بمجموعة من الكتابات الهادفة ، بأسلوب غاية فى السخرية ..! 
يبحث أنور منصور فى أصول العائلات فى ( موط )  هذا الموضوع الذى ظل يؤرقنى لتشابك عناصره وغموضها ، حينما كنت أكتب عن الأصول السكانية للواحات الداخلة ، فكانت ( نخربة ) أنور منصور هى من أهم المصادر التى يتوسل بها الباحث للتأصيل والتوثيق فى هذا الاتجاه .
رافقنى أنور وصديقنا الدكتور يوسف جبالى الذى لايقل اهتماما وحنينا الى (تاريخ الخرابة )وهى التى خرج منها ليكون بعد ذلك أشهر وأمهر أطباء الواحات المصرية قاطبة ،
تجولنا بعد صلاة الجمعة فى ( موط القديمة ) التى لا تزال شاهقة الى الآن ،ووصلنا الى أعلى نقطة فى الهضبة وهى سطح بيت ( آمنة موزة ) أشهر من سكن ( الخرابة ) فى العصر الحديث ،مرورا بالحارة الشرقية التى كانت معبرا للسكان الى الغيطان الشرقية ، ثم العبور الى حارة الغنايم مرورا ببيت العمدة القديم ، ثم الى منطقة الجامع القديم  بحرى البلد ثم مواصلة الصعود الى الكتلة السكانية الوسطى ، التى كانت تسكنها عائلة الحمور ، ثم الصعود الى قمة الهضبة ، وأعلى أسطحها  ، التى تشرف على بانوراما رائعة للمدينة التى تناثرت ، وانفرط عقدها فى دائرة تلف محيط الهضبة من كل جوانبها المترامية الأطراف ، ولم يفتنا أن نقوم بمعاينة تلك الطاحونة التى كانت - فيما مضى - تعمل بدفع البقرة ، والتى استهدفها الصديق أنور ، متسائلا عن الوحدة الزخرفية المحفورة على القائم الخشبى للطاحونة ، حيث أسر اليه أحد زوار الواحات ممن يدعون العلم ، أن هذه الوحدة الزخرفية انما هى عبارة عن ختم الأكراد ..!! والصحيح هو أنها وحدة زخرفية أمازيغية ، اسمها ( الشمس ) وهى وحدة زخرفية تنتشر فى واحة سيوة ، خاصة فى تطريزثوب المرأة الذى يطلق عليه ( آشراح )  وهو لفظ أمازيغى كما هو موضح فى الصورتين الآتيتين( فى الوحدة الزخرفية السيوية فى الصورة الثانية  ، لاحظ وحدة الوسط الدائرية )
(يمكن مراجعة دراستنا حول / وحدات زخرفية فولكلورية ، على موقعنا - عيون المشربية ، وعنوانه :
 
وكان الأغرب فى الأمر أن السكان قد عاودوا السكنى فى ( الخرابة )من جديد ، وتفسيرى المتواضع لذلك لا يخرج عن سببين ، الأول هو أن مشروعا قد حلم به أحد القيادات المحلية يتضمن شق شبكة من الطرق داخل هذه الكتلة القديمة ، وبالتالى احياءها من جديد ، أما السبب الثانى لتكالب السكان على العودة الى ( الخرابة ) ربما يعود الى حالة النهم الذى يدفع الناس هنا الى البحث والتنقيب عن ( الآثار) خاصة أنه من الثابت تاريخيا أن موط القديمة مقامة فى الأساس فوق معبد MOUT((  الفرعونى ، مثلها فى ذلك مثل مدينة القصر الاسلامية ، تلك التى بنيت فى أوائل العصر الاسلامى ، وبأحجار من جدران المعبد القابع أسفلها ، وخيرا فعلت هيئة الآثار المصرية بضمها اليها ، ولكن – حتى الآن – تبقى مدينة موط القديمة فى انتظار قرار الضم للآثار ، فهى وعاء فرعونى رومانى مؤكد الى حد التوثيق – والنهارده أحسن من بكرة ..!!
  ( لاحظ طريقة البناء الدائرية - بلا أضلاع - فى موط القديمة ) 
             
   ( أنور منصور ، يتطلع الى قمة موط القديمة )          
( أعلى سقيفة فى موط - وأنور والدكتور يوسف جبالى يتفحصان جدران التاريخ القريب )   
( يتلاحم الحديث مع القديم فى عمران موط ) 
( كم كانت السطوح جميلة بذكرياتها فى موط ...!!! )
(للمزيد من الايضاح يمكن زيارة مقالنا حول عمارة المسكن فى الواحات الداخلة )


للمزيد قم بزيارة موقعنا التالى 


                    ( عبد الوهاب حنفى )
                           ( ديسمبر 2010 )


المصدر: رحلة ميدانية فى مدينة موط القديمة بالواحات الداخلة